يزخر الفيلم السلوفيني الطويل المعنون «فصل من حياة جامع خردة» لمخرجه دانيس تانوفيتش، والذي أثار حيرة النقاد وإعجابهم لدى عرضه في مهرجان أبو ظبي السينمائي ، بذلك الاشتغال الفطن على حدي التسجيلي والروائي.
ينهض الفيلم على حكاية بليغة مستمدة من واقع صعب في مكان ناء وبعيد عن أطراف المدينة الكبيرة، ويسري فيه حراك شريحة إنسانية بسيطة من الغجر، تحيط بهم أجواء من التضاريس الطبيعية، وكأنهم في دائرة من العزلة والتهميش والإقصاء، حيث تسكن عائلة على مقربة من مكب لنفايات السيارات، ويلتقط فيها إفرادها من الغجر رزقهم من جمع الخردة التي يجري استصلاحها وبيعها لاحقا بثمن بخس في سوق المدينة .
تضم تلك الفئة التي اشتغل عليها المخرج بأسلوبية سمعية بصرية متمكنة، أفراد عائلة مكونة من زوج وزوجة وابنتين، بذل المخرج جهدا إبداعيا في التغلغل إلى دواخلهم، بكاميرا شديدة الاعتناء وهي تغرف من تفاصيل عيشهم اليومي، وتصور ألوانا من العلاقات الرتيبة التي يخيم عليها الصمت والتأمل بمصيرهم إزاء اندماجهم في بيئتهم
.
يرسم تانوفيتش بفيلمه عوالم هؤلاء الأفراد البسطاء وما يواجهونه من تحديات الفقر والعزلة، والتي تصل إلى درجة الظلم الإنساني إزاء طموحاتهم البسيطة في العيش، ويتبين ذلك من خلال معاينته الدؤوبة لأفراد العائلة الغجرية في يوم وليلة من فصل الشتاء القارص وهطول الثلج الذي يكاد يغمر منزلهم المتواضع .
تدور كاميرا الفيلم باحثة ومتفحصة معاناة أفراد هذه الأسرة الذين يسعون بأقصى طاقاتهم إلى إزالة ركام الثلج من على أطراف المنزل، أو هم في لحظة إعداد مائدة الطعام بما يتوفر لديهم من مستلزمات العيش البسيط، وهناك أيضا جهد الأب العاطل عن العمل أحيانا، وهو غالبا ما يعود أدراجه خائبا باحثا عن فرصة عمل لإطعام باقي أفراد أسرته، ويظهر أمام الكاميرا مطولا في تحطيب الأشجار طلبا للدفء لاتقاء برد الشتاء القاسي.
يركز الفيلم على تبيان تفاصيل العيش الصعب لتلك الأسرة، وذلك عندما تتعرض الزوجة لعارض صحي طارئ جراء الحمل، حيث يصطحب الفيلم أفراد الأسرة: الزوج والزوجة وطفلتيهما في سيارتهم المتهالكة إلى احد المستشفيات القريبة، وهناك يتبين حجم المعاناة والظلم الواقع عليهم، خصوصا وأنهم لا يمتلكون بطاقة تأمين صحي، وليس لهم القدرة على تغطية تكاليف العملية الجراحية الطارئة المقررة من الطبيب تلاقيا لعواقب صحية خطيرة تهدد حياة المرأة والجنين.
يبدأ الزوج عملية البحث عن المال لمواجهة هذا الطارئ من خلال معارفه والمحيطين به، قبل أن يصمم على اللجوء إلى طريقة الاحتيال على المستشفى، تتلخص في معالجة زوجته من خلال بطاقة تأمين صحي عائدة لامرأة أخرى .
يسبر الفيلم أحداث يوم كامل بإيقاع رتيب لهذه الفئة الإنسانية التي تعاني بصمت وتواجه مصائرها دون صراخ أو عويل بل باكتفاء محدود في وضع نهاية تحمل أسئلة بليغة مزنرة بجماليات اللغة السينمائية واللعبة الدرامية التي تكاد لا تنفصل عن حقيقة الواقع وهو ما منح الفيلم الكثير من الألق والجاذبية والافتتان رغم كل هذه الشحنات السوداوية .
أكثر ما يلفت في الفيلم هو في براعة أداء شخوصه في مناخات صعبة موزعة بين قسوة الطقس والحاجة إلا أن دفء العلاقة الحميمة للعائلة يبقى رغبة أكيدة في مواجهة انكسارات وهزائم وإشكاليات وأزمات الحياة المعاصرة، فعلى رغم ذلك لا يتوسل المخرج عواطف المتلقي بقدر ما يقدم دعوة إلى التعرف على نماذج وقناعات إنسانية مشرقة في التالف والتودد والتماسك بين أفراد من تلك الفئات المنسية .
يشار إلى أن المخرج البوسني دانيس تانوفيتش نال جائزة السيناريو في مهرجان (كان) السينمائي، جائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي عن فيلمه المعنون « أرض محايدة «، ولاقى فيلمه (سيرك كولومبيا) الكثير من إعجاب النقاد والحضور في أكثر من مهرجان وملتقى سينمائي وهو غالبا ما يصور أفلامه بإمكانيات مادية بسيطة حيث تغرف من قصص بيئته الاجتماعية في منطقة البوسنة ألوانا من حكايات سوداوية لا تعدم الدعابة أحيانا لكنها مليئة بالمواقف الإنسانية النبيلة .وقد بلغت الجوائز التي حصل عليها المخرج دانيس تانوفيتش ثمان وعشرون جائزة.